الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

القصة الفائزة بالمركز الثاني في شبكة فلسطين للحوار

معزوفة الأحلام


للفجر في (برلين) رائحة، كرائحة الثلج حين يذوب في شفاه ملتاعة، كرائحة الشوق حين يصاب العاشقين برعشة، وتلك الشجيرات تتراقص على لحن ريح أبدي، تتمايل في جذل وتهمس لبعضها أن فلسطين ستتحرر. يغلق إبراهيم النافذة ثم يكمل على دفتره:
للفجر في (برلين) صوت، كدموع الغيمات حين تبكي بغزارة، فإن سكان غزة قد تناثروا في كل بقعة..
ينزل (إبراهيم) إلى حديقة المنزل ويرفع يده إلى السماء ليلتقط رحماتها المتساقطة بقبضته، تختلط دموعه بدموع السماء فيغسل وجهه بهما، تنطلق آهته ثم يدعو بحرارة: يا رب حرر فلسطين، ويردفها بدعوته الخالدة: اللهم اجعلني كاتباً كبيراً..
يتذكر عندما بدأ الحلم ينمو في نفسه منذ أن كان ينام في أحضان جدته ويتغنى بقصيدته الطفولية: يا أيتها العصفورة زقزقي، وبجناحيك رفرفي فإننا سنعود..
وما أن أكمل الثانية عشرة من عمره حتى اكتشف أن حبه للكتابة، قد تضخم تدريجياً حتى وصل إلى مرحلة العشق، فصار الأدب حلماً يتنفسه في الصباح وفي الظهيرة وقبل المنام..

تناديه أمه في حنان مصطنع: إبغاهيم ادخل إلى المنزل فالعاصفة ستؤذيك.. يستفزه الاسم فيخرج جواله من جيبه لكي يكتب خاطرة طرأت لباله:
كل الموجودات في ألمانيا باردة، والبعد يتفنن في امتصاص نكهات الأشياء فتبدو الحياة باهته، بلا طعم بلا لون وبلا رائحة..
يفكر: عندما قررت أن آتي إلى هنا لإيجاد عمل بعد أن أنهيت دراستي الثانوية، كان يجب علي أن أعرف بأنني سأصبح حارساً للزهور، لكنني في سوريا كنت أطمح إلى أن أَدرس الأدب، أن أصبح برفيسوراً كبيرا في اللغة العربية وكاتباً يحرر فلسطين بقنابل من أسنان قلمه..
وعندما صارحتني جدتي أنني كبرت، ويتوجب علي أن أعود لأبي في ألمانيا فهو يحتاجني أكثر من أي وقت آخر، قلت في نفسي: وأي واجب يضطره أن يزورني في عيد الأضحى ويتركني بقية العام، لكنني نفضت أشواك ألمي.. وكتبت:
سأفتقدك جدتي، سأفتقد بسمتك ودفأك وكوب الشاي الذي نشربه سوياً، أتعرفين أنني على استعداد أن أبيع نصف عمري إن كان ذلك سيرسم بسمة واحدة على ثغرك، والمتبقي لي من الحياة سأعمله أجيراً عندك.. سأمرغ وجهي في قدميك كما أفعل دائماً، سأظل أناديك أمي، سأحادثك هاتفيا كل يوم وكل ساعة، وإنني وإن رحلت فلأن تلك رغبتك.. أتعرفين أنك لو طلبت مني أن أقتل نفسي لتوجهت إلى الجبهة حالاً لأفتك باليهود، لن أبقي إسرائيلياً واحداً على أرضنا سأعرض نفسي للموت سأموت من أجل فلسطين ومن أجلك..
احتضنتها وأعطيتها الورقة فرأيت دمعها المتساقط وسمعتُ شهقة مكتومة.. ودعتها بصوت متحشرج ثم هربت حتى وصلت للحافلة التي نقلتني للمطار..
وفي الطائرة جلس بجواري شاب معاق ترعاه أمه في المقعد التالي، تطعمه بيديها وتمسح له فمه وأنفه وتساعده في دورة المياة، استثارني المنظر فبكيت.. قالت لي الأم مخففة: لا عليك إنني لا أشعر بتعاسة، فكرت في أمي التي أورثتني عينيها الزرقاوين وشعرها الذهبي، تخيلتني أذوب في أحضانها وأشتم رائحة الأمومة وهي تعتصرني بين يديها بشوق سبعة عشر عاماً.. إلا أن الحيرة أخذتني بعيداً فلم أستطع أن أتبين حقيقة مشاعري تجاهها.
أما أبي فأعترف بأنني اشتقت إليه، فعندما استقبلني في المطار، قبلت جبهته بحنين وطوقت عنقه بذراعي بينما كان يمسح على ظهري بدفء، حمل عني حقيبتي وأخذني معه في سيارته، وفي الطريق أخبرني أبي: بأن أمي أسلمت حديثاً بعد أن رأته حريصاً على صلاته أكثر من أي شيء آخر.. وأنه يفضل الموت جوعاً على أن يأكل لحم خنزير، وأنه يتصدق كثيراً.. وإن كانت لا تفهم لم يردد دائماً أن صدقته من أجل فلسطين.
نظر إلي أبي فلاحظ شرودي، صمت برهة ثم قال لي برقة: إن ديفيد متشوق إلى أن يرى أخاه الوحيد..
غرقت في تأملاتي حتى أنني رأيتني أداعب أخي الأصغر وأخاطبه مازحاً باللغة العربية الفصحى، وإذا انزلق لسان أحدنا إلى اللهجة العامية فإننا نضحك، أتساءل: هل ستكون لهجة أخي فلسطينية خالصة؟ على الأقل لن تشوبها لهجة السوريين مثلي..
وصلنا للمنزل، فقال لي أبي آمراً: سلم على أمك.. صافحتني ببرود ويداي ترتجفان وأنا ألمس أمي للمرة الأولى، أي ذاكرة تلك التي تجود علي بها وقد هجرتني وأنا ابن عام ونصف؟
همت أن تعانقني لكنني دفعتها عني بقسوة، تأملتها ملياً فرأيت في وجهها صورتي.. إلا أن شعرها ينساب حتى ظهرها، وفي وجهها استدارة أكثر.. أي عذر سأقبله لها أنها تنازلت عني لجدتي.. لا لشيء ولكن لأنها لا تستطيع أن تتخلى عن عملها كسائقة أجرة!..
أما عندما خرج أخي ديفيد إلى الدنيا فإن أوضاعهما المالية كانت قد تحسنت قليلاً فتركت أمي العمل وارتقت رتبتها إلى ربة منزل، كما أن أبي أخبرني بفرحة: أنه قد حصل على الجنسية الألمانية منها.

في بادئ الأمر كان حديثي مع ديفيد صعباً، ليس لأنه ابن ستة أعوام فحسب، بل لأنني اكتشفت في الأخير أنه يتقن ثلاث لغات ليست العربية من بينها، وإن أمي وإن كانت ألمانية فإن أباها أمريكي، أما أنا فعليَّ أن أخاطبهم باللغة الانجليزية.. إلا أنني في النهاية تقوقعت على نفسي في صمت ثقيل.
إن أبي هو وحده الذي يخاطبني كما أهوى باللغة العربية، كما أنه الذي يستطيع نطق اسمي صحيحاً.. لكنه لم يمنع نفسه أن يقول بمرح: ألم تجد لك جدتك اسماً آخر؟ إن الألمان أجمعهم لا يستطيعون نطق الراء فهم يبدلونها غيناً.. تكاثف ألمي عند ذكرى جدتي وسرعان ما كتبت:
إن اسمي إبراهيم، ولغتي عربية.. وحرف الراء يتوسطنا كأجمل زخرفة ربانية.

ينتزعه صوت أمه مرة أخرى وهي تنادي عليه: إبغاهيم تعال لتفطر معنا يا بني، فينتبه فجأة إلى وجوده في الحديقة واستناده إلى شجرة ينظر لساعته ثم يخرج للعمل.
يصل إلى حديقة الزهور التي كُلِّف بحراستها، يرى ألوانها وهي تتفنن في صنع الجمال وتنفث عبيراً وحباً، يغمض عينيه في عدم تصديق، ثم يكتب: بينما كنت أصغي إلى زهرتي البيضاء وهي تحكي لي قصة السلام، أتت فراشةٌ فلقحتها وامتصت من قلبها رحيقاً..
لقد كان في شبه غيبوبة وهو يتأمل سحر الطبيعة، ولكن سرعان ما انتصف النهار، مما جعل رفيقة التركي ينبهه بانتهاء دوامه ليرجع إلى منزله..
وبعد مدة عادت أمه من السوق لتجده مستنداً إلى الشجرة ذاتها، ألقت عليه التحية، فنظر إلى الشمس التي غربت تواً، وقال لها دون مناسبة: لكن شمسي قد غربت منذ زمن! نظرت له أمه بحيرة، ثم حدثت نفسها: بأن ابنها يدور في فلك الجنون..
تبعها بعد برهة إلى الداخل واعتكف في غرفته ليسطر خواطره المتزاحمة، يفكر: لقد كنت في سوريا أكتب حين أمتلئ حماسة، لكنني هنا أكتب عندما يفيض الألم ويعبئ الروح عن آخرها..
يسترجع أحاديثه مع التركي سلطان وما حكاه له عن أسطول الحرية، وما حدث بسفينة مرمرة حين أرسلتها تركيا معونة إلى غزة فدمرها اليهود عن بكرة أبيها ثم إن إسرائيل بعد ذلك لم يعتذروا لتركيا عن فعلتهم بل اكتفوا بالأسف لما حدث.
قال سلطان لإبراهيم مستطرداً: إنني أحب فلسطين وحلمي الوحيد أن أسجد السجدة الأخيرة في المسجد الأقصى.
دمعت عينا إبراهيم وأبدى رغبته الشديدة في أن يفعل أي شيء من أجل موطنه الأصلي فلسطين، فعرض عليه سلطان أن يرافقه غداً فهناك مظاهرة ستقام..
استقرت الفكرة في رأس إبراهيم فبعد أن انتهى من عمله، زحف إلى الساحة مع صديقه سلطان وفي يده علم ليهتف بقوة مع المتظاهرين، رأى أعيناً كثيرة مغروقة في حزن عميق وممزوجة بتحدٍ، وصوتهم يرتفع..
وما أن هدأت زوبعة الهتافات حتى انطلق ذلك الصوت من المكبر يلقي خطاباً عن السلام وعن العودة لفلسطين، وحقوق الأسرى والمعتقلين..
اشتد إعجاب إبراهيم بما يسمع، وشعر برغبة ملحة في أن يرى ذلك الوجه الذي ينطق بكل خير، حشر نفسه بين الكتل البشرية ودقق نظره أكثر فالتقت عيناه به ولدهشته فقد كان الذي يلقي الخطاب أبوه.

على الجانب الآخر كان ديفيد يوزع المنشورات وقد رسم على خديه مستطيلات ثلاثة ومثلثاً أحمر.. أما أمه فقد زادها جمالاً العلم الفلسطيني الذي غطت رأسها به، تضخمت في عينيه وهي مصطفة مع النساء فغدت أعظم أم في الوجود، رآها تسند امرأة كبيرة في السن تشبه جدته تماماً، زاره الحنين مرة أخرى لكنه اتجه إلى أمه وقبل رأسها في مودة..

انتهى كل شيء، فاجتمعت العائلة تلقائياً ثم ركبوا في قطار واحد، وبينهم أحاديثٌ مشتركة.. تساءل إبراهيم: هل ستنتفع فلسطين بما قمنا به، فرد أبوه: ستتحقق الأحلام ولو بعد حين.. بينما قالت أمه بإيمان: سينصر الله المسلمين، ووافقها ديفيد الصغير بأن هز رأسه إيجاباً.
ولأول مرة يشعر إبراهيم بالانتماء إلى أسرته إلا أنه في النهاية صارح أباه برغبته في أن يسافر إلى سوريا لأسبوعين..سمح له أبوه أن يقضي إجازة العيد هناك، وحين جاء الموعد رتب إبراهيم ملابسه وجمع أشواقه في حقيبته، ودع أبويه بحرارة وعانق ديفيد في لهفة ثم سافر إلى جدته، ليعود إلى حضنه وأمانه..
ردد إبراهيم بنغم: إن جدتي دفءٌ.. إن جدتي وطنٌ.
وفي المساء وجد نفسه أمامها مباشرة، ألقى عليها نظرةً فأذهله منظرها، إنها ليست هي نفسها التي تركها حفيدها قبل أشهر، إن وشاحها الأبيض قد انقلب إلى السواد.. أما وجهها فقد امتلأ بالتجاعيد وفي عينيها اصفرار..كتب إبراهيم على دفتره:
إن فلسطين كجدتي، تذوي عند رحيل أبنائها عنها.. توقف برهةً ثم أكمل بعزم: وكما عدت لجدتي فسأعود إليك فلسطين.

في صباح يوم العيد جاء إبراهيم إلى جدته مبتسما وفي يده صحيفة..
إن مما يؤمن به إبراهيم: أن الأحلام حين تتحقق فإنها تفعل ذلك دفعةً واحدة، وإنه وإن كان يتمنى بأن يصبح كاتباً مشهوراً، فإن أمنيته الأكبر بأن تلفظ فلسطين أعداءها..
قرأت جدته بصوت مسموع زاويةً في الصحيفة:
(سنريح قلوبنا لليلةٍ ويوم، ونشدو بلحن العيد..
سنغرد، وإن بدا صوتنا كسيمفونية حداد..
ستصبغ غزة شفاهها بديرم من دم،
وتكتحل أم ثكلى ببقايا بارود..
و صدى الشهيد يتردد: الله أكبر.
سنكبرُ الله، نوحدهُ، نحمدهُ كثيراً، نسبحهُ بكرةً وأصيلاً..
رغم الجراح ورغم الألم، سنستجيبُ لدعوة الفرح).
التقطت الجدة بعينيها اسم إبراهيم الذي يتذيل الكلمات، 
تنهدت ثم أردفت قائلة: لطالما حدثتك عن تحقق الأحلام.

*هنا رابط للخبر الذي أعلنت فيه نتائج المسابقة , في موقع مؤسسة فلسطين للثقافة